الحكمة الخامسة
قال بديع الزمان النُّورْسي:
إن لصوم رمضان حِكَماً كثيرة من حيث توجهه إلى تهذيب النفس الأمارة بالسوء، وتقويم أخلاقها وجعلها تتخلى عن تصرفاتها العشوائية، نذكر منها:
إن النفس الإنسانية تنسى ذاتها بالغفلة، ولا ترى ما في ماهيتها من عجز غير محدود، ومن فقر لا يتناهى، ومن تقصيرات بالغة، بل لا تريد أن ترى هذه الأمور الكامنة في ماهيتها، فلا تفكر في غاية ضعفها، ومدى تعرضها للزوال، ومدى استهداف المصائب لها، كما تنسى كونها من لحم وعظم يتحللان ويفسدان بسرعة، فتتصرف واهمة كأن وجودها من فولاذ، وأنها منـزهة عن الموت والزوال، وأنها خالدة أبدية، فتراها تنقضُّ على الدنيا، وترمي نفسها في أحضانها حاملة حرصاً شديداً، وطمعاً هائلاً، وترتبط بعلاقة حميمة ومحبة عارمة معها، وتشد قبضتها على كل ما هو لذيذ ومفيد، ومن ثم تنسى خالقها الذي يربيها بكمال الشفقة والرأفة، فتهوي في هاوية الأخلاق الرديئة، ناسية عاقبة أمرها وعقبى حياتها وحياة أُخراها.
ولكن صوم رمضان يُشعر أشد الناس غفلة، وأعتاهم تمرداً بضعفهم وعجزهم وفقرهم، فبوساطة الجوع يفكر كل منهم في نفسه وفي معدته الخاوية، ويدرك الحاجة التي في معدته، فيتذكر مدى ضعفه، ومدى حاجته إلى الرحمة الإلهية ، فيشعر في أعماقه توقاً إلى طرق باب المغفرة الربانية بعجز كامل، وفقر ظاهر، متخلياً عن فرعنة النفس متهيئاً بذلك لطرق باب الرحمة الإلهية بيد الشكر المعنوي -إن لم تُفسد الغفلة بصيرته-.