في تلك الليلة.. كنت أشعر أن روحي منسكبة، وأني بحاجة إلى من يلملمها، حتى وإن أخذ نصفها.. يكفيني النصف.
نظرت إلى قطي، دميتي، ورقي.. أشحت ببصري: عفوًا، مللت حديثكم، مللتكم.. مللت خداعكم لي أو خداعي لكم.. أنتم لستم بشرًا وأنا هذه الليلة أحتاج البشر، أحتاج فقط إلى ’بعض الحديث‘!
من بين الملايين بالعالم، من بين الرحماء ونشطاء حقوق الإنسان وفاعلي الخير.. ألا توجد يد حانية لي؟
جهزت طعامًا، وقد كان طبقًا من السمك المشوي الشهي بعد كل هذا الوقت في إعداده، ولكني لم أكن جائعة.. فتحت التلفاز.. كان فيلمًا كوميديًا لكني إذ أضحك تردد صدى ضحكتي في المكان أرهبني، أغلقته.
خطر على بالي لحن ظريف.. هممت أن أنطق لكن خرجت حشرجات، سعلت عدة مرات لتنقية صوتي، ولما حصلت على صوت نقي أخيرًا كنت قد نسيت اللحن..
لعنت وحدتي صمتي موتي البطيء.. مزقت أوراقي وبقرت بطن دميتي.. سرّحت قطي، لكني إذ أغلق الباب راجعت قراري: "كنت وحيدة كفاية بوجوده، فكيف دونه؟" ارتديت ملابسي وتبعته إلى الخارج.
_
شوارع سوداء خالية.. كم منهم قطعت؟ سيارات حمقاء مرصوصة.. تحت كم منهن انحنيت؟ صناديق قمامة نتنة... نعم، فحصتهم..
سمعت صوتًا مريعًا لاحتكاك سيارة مسرعة بالأسفلت.. رأيت قطًا متصلبًا في منتصف الطريق على عينه نظرة مذعورة.. أطلقت صرخة..
توقفت السيارة على بعد ’لا شيء‘ وفر القط.. نزل السائق قلقًا يسألني: أنتِ بخير؟
لم أجب، كنتُ أرقب القط إذ يركض مبتعدًا، لم يكن قطي.. نظر إلى حيث أنظر وسألني: هل تهتمين له؟
تتجاوزه السيارات مزمجرة أو لاعنة.. يتردد في الدخول إلى سيارته.. كأنه يشعر بواجب ما ـ لم يلزمه به أحد ـ تجاهي.. أريحه من هذا العبء وأستدير عائدة.. وإذ أبتعد أفكر: كم بدا حنونًا بالرغم من أنه غريب.. إن هذا.. ليأسر...
- يا آنسة!
التفت..
- هل لي أن أوصلك إلى حيث تسكنين؟ ربما لا يجدر بكِ المضي وحدك في هذا الليل
"وحدي...."
ركبت جواره.
- إلى أين؟
نظرت إليه في صمت.. كانت ملامحه رجولية جذّابة... وكان في عينيه الخوف علي، وهو ما أكد لي أني واهمة: لا أحد يهتم بعابر سبيل..
نظر لي، نظرت للطريق..
أعاد:
- إلى أين؟
أشرت إلى الأمام..
- لماذا أنتِ بالشارع في هذا الوقت؟
كان يعجبني، وهو ما جعلني أشعر بعبثية الأمر.. فالرجل الذي يعجبك لا يصير لك، وإن أعجبك ولم يصر لك، فقل لي بالله لماذا قابلته؟
- ربما أبدو لكِ فضوليًا، لكن الأمر ليس محض فضول.. شيء بك يجعلني أهتم.. شيء شفاف لا أعرف وصفه ولم أره بأحد... لماذا لا تدعيني أساعدك؟ أنا لا أطلب سوى بعض الحديث..
"بعض الحديث"؟ هل قال: "بعض الحديث"؟
شعرت بانفراجة في روحي.. رتاجات تنزاح وأبوابًا تُفتح.. فمي الذي كان موصدًا راح يبعثر الكلمات.. "ممتنة"، "عندي مكتبة ضخمة"، "أكلة سمك مشوي"، "كان فيلمًا طريفًا"، "كان اسمه (ويل)"... حتى ذاك اللحن دندنته:
"زوروني كل سنة مرة حرام تنسوني بالمرة.. يا خوفي والهوا نظرة تيجي وتروح بالمـ..."
علقت عيني بالمنزل، غشاني الحزن: هنا!
منحني بطاقته، لكنني لم أعد أكتفي بالورق:
- اصعد معي
- لن أزعجك؟
- ستسعدني.. عندي الآلاف من الأشياء التي تصلح لاثنين..
وصعدنا... بالضبط لم أفكر فيما يصح وما لا يصح.. كنت مأخوذة بذلك السحر الذي يغلفه.. تغمرني لذة: أن هناك إنسان بالكون يهتم لك، يسمعك، يشاركك... وقد كان هذا الإنسان رائعًا حقًا..
كان يستمتع برحيق القهوة قبل أن يرشفها، ويدندن مع فيروز بصوت خفيض، ويخرج إلى الشرفة وبصره لأعلى..
وقد أعطاني هذا مؤشرًا عن الأشياء التي يحبها، وأحبها.. كنّا متشابهين، وأي بقعة مظلمة أو مضيئة بروحي كنت أجد لها معادلاً لديه.. كان مثلي هاربًا من قسوة والده.. ولكنه ـ على العكس مني ـ متجاوز للأزمة.
كان يؤمن أنه لا بأس من بعض الحزن.. فالحزن ينقي الروح ويجعل رادارها أقوى لاستقبال الأشياء.. أبسط الأشياء.. نظرة عابرة أو لحن ما.. أشياء كثيرة لن تلحظها إن لم تكن حزينًا.. وأشياء كثيرة لن تذكرها إن لم تتألم بها...
- مثل ماذا؟
- حبيب ما.. إن لم يترك لكِ ما تتألمين به فلن تذكريه بعد مضي الوقت
- والذكريات الجيدة؟
- تذوب
كنت أدخل عالمه بسهولة، لم أجد أبوابًا أو رتاجات.. وكان عالمه كئيبًا.. كان لمّا يقسو عليه والده يعمد إلى جرح نفسه.. هذا الألم يدعمه ألا يخاف: فإن كان يخشى الألم الناجم عن عقاب والده فها هو في الألم بكامل إرادته..
كان معقدًا لكني أفهم مبرراته كما لن يفهمها غيري.. وقد هالني أن يوجد إنسان بالكون يحتاج إليّ، وأن نظرة حانية مني تكفيه.
وحين نظر إلى شعري الطويل عرفت لماذا كنتُ أعني به، حين نظر إلى ثوبي وزينتي عرفت جدوى الأثواب والزينة.. عرفت أني أكتمل به.
كنت سعيدة وخائفة من اللحظة التي سيعلن فيها:
- سأرحل..
- ستعود؟
- ربما
وابتسم.. مال إلى يدي يقبلها.. ولوهلة لم أفهم ماذا يفعل أيضًا....
شعرت بألم مريع، ورأيت الدماء تسيل من حيث إصبعي.. كان يقضم طرف إصبعي حتى انفصل، فوضعه في جيبه وقال:
- للذكرى!
وقفت في ذهول، ثم أفقت على الألم، صرخت به:
- أيها المجنون اللعبن اخرج من بيتي ولا تدعني أراك ثانية أبدًا
دفعته بكلتي يدي:
- اخرج أيها المريض! اخرج!
صفقت الباب خلفه، وظللت أبكي حتى سقطت..
_
في الليالي التالية أعدت تجميع أوراقي الممزقة، وأخطت دميتي... وأثناء مشاهدة الأفلام الكوميدية تعلمت الضحك دون إصدار صوت.
فعلت كل الأشياء التي تفعلها وحدك، حتى الأشياء التي تُفعل باثنين فعلتها وحدي...
كنت أزيح الضمادات وأنظر إلى إصبعي المفقود، وأذكره... كم كانت ليلة رائعة!
ربما تكون الوحدة قاسية، لكنها تصير أقسى بعد أن تجرب المشاركة... الحقيقة أني لم أنسه في لحظة.... كان ما منحني من سعادة يفوق ما سببه من ألم... هل أخذ إصبعي؟ يكفي أنه الإنسان الوحيد بالكون الذي رغب في ذكرى مني....
أدرت عيني بين الدمية والهاتف.. أدرت رقمه..
حتى يأتي.. أعددت المائدة والإضاءة والاسطوانات... تحممت وتعطرت ومشطت شعري.. وحين جاء.. أبدى إعجابه بكل تفصيلة من هؤلاء.. كنت أرقبه بعمق وكأني أخشى أن تفوتني نظرة منه أو التفاتة... أو كلمة
- الكلمة هي كل شيء
كان يقدر الكلمة كما لا يفعل آخر، والكلمة عندي معادل للروح... وكم من رجل بالكون لا ينتبه إلا للجسد.. أما الرجل الذي يهتم بالروح.. ألا يستحق إصبع من الجسد؟
هل كانت هذه الليلة أروع أم تلك؟ لا يهم... المهم أني لم أعد وحيدة، وأني بعد الآن لن أخشى أن يقول:
- سأرحل
- ستعود؟
- قطعًا
احتويت عينيه بحنو وطلبت منه أن يغمضهما.. وإذ يفتحهما وجد أمامه علبة مُغلّفة، أزاح أوراق الهدايا فاتسعت عيناه اندهاشًا:
- إصبع جديد؟
قلت باسمةً:
- للذكرى